الصفحة الرئيسية

الأربعاء، 12 فبراير 2014

أيام "Her" الستة


  في البدء كان أدم سبايجل، المخرج العالمي المعروف اليوم باسم: سبايك جونز، الشاب الأمريكي الذي صنع لنفسه واسمه مكاناً خاصاً في هوليود، ليس لإنتاجه الكثيف، ولا لعدد الجوائز التي تحصل عليها، ولكن للاتجاه الغير المسبوق الذي اختاره لنفسه وأفلامه. ففي تلك الرقعة البكر التي لم تطأ مسبقاً، جلس سبايك جونز بأفلامه القليلة متفرداً.

 هناك، قريباً من منطقة أفلام الخيال، تلك المنطقة التي غرقت دون وعي في مستنقع اللامنطقية، كان جونز يقف وحيداً، يحاول الحفاظ على سمعة واسم هذه المدرسة بما يجوز تسميته بـ "الخيال الجاد"، الخيال الانساني المنطقي الجامح الذي يسعى لاقتلاع الفكرة من جذورها، وإعادة غرسها في زمان أو مكان أخر مستقبلي، ينفي بهذا الفعل كل المؤثرات الأخرى التي ممكن تؤثر عليها وتوهمنا بفهم خاطئ، ويجعلنا ننظر للفكرة نفسها من زاوية أخرى وفي ظروف أكثر تطرفاً، ونستكشف لوحدنا: هل تصمد فعلاً أم لا.

-       اليوم الأول: نَفَس
 تتكون الأفلام عادةً من عملية خلق مستمرة، من ورق إلى صورة، ومن صورة إلى صور متتابعة، ومن صور متتابعة إلى خلق جديد. ومثل هذه العملية تحتاج غالباً إلى نَفَس، وهو نَفَس المخرج الذي يبثه داخل الفيلم كي يمنحه الحياة، النَفَس الذي يعطي لهذا الخلق الجديد روحه وإيقاعه.
 الأمريكي سبايك جونز أخرج خلال مسيرته في هوليود التي بدأت منذ عام 1989 كممثل شاب، أربعة أفلام طويلة فقط، جميعها أتسمت بالنَفَس الواحد وهو "الخيال الجاد" كما اصطلحنا مجازاً سابقاً، وأول هذه الأفلام عام 1999 وهو Being John Malkovich، الذي كتبه المؤلف تشارلي كوفمان، وترشحا كلاهما عن هذا التعاون الأول بينهما إلى جائزة الأوسكار. واستمر تعاون سبايك مع كوفمان في عمله الثاني عام 2002 في فيلم Adaptation, وهو الفيلم الذي أدخل سبايك جونز التاريخ، فبخلاف قيادته لكريس كوبر الذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل دور مساعد، وترشح ميريل ستريب لجائزة أفضل ممثلة دور مساعد، فالإنجاز يكمن بقيادته نيكولاس كيج الذي ترشح لجائزة أوسكار أفضل ممثل دور رئيسي، وبشخصية خيالية، وهو الانجاز الذي لم يسبقه عليه أحد سابقاً.
 في عام 2009 عاد سبايك جونز لشاشات السينما العالمية عبر فيلم مقتبس من كتاب موريس سينداك، وتكفل بالإخراج وكتابة السيناريو بنفسه، وهو Where the Wild Things Are، وصحيح بأنها تجربة لم تصل به ناحية الأوسكار، وأكتفت بترشيح واحد لجائزة الغولدين غلوب، ولكنها حظيت بأكثر من 25 ترشيح في مهرجانات أخرى وفازت بخمسة جوائز. ووصولاً إلى فيلمه الجديد هذا العام Her، وهو موضوعنا هنا، والذي تكفل أيضاً سبايك بكتابته وإخراجه، وحصد جائزة أفضل سيناريو في الغولدين غلوب، ومقبل على خمسة ترشيحات أخرى من أجل الأوسكار.

-       اليوم الثاني: جنين
 لو سألنا أي من المخرجين حول العالم عن أصعب جزء في صناعة أي فيلم، أتوقع بأن الغالبية ستتفق بأن أول ربع ساعة هي الأكثر مشقه، لأنه يفترض على أي مخرج أن يخلق عالماً كاملاً خلال هذه الدقائق القليلة الأولى، زمان ومكان وشخوص، ضخ معلوماتي مكثف بالصوت والصورة، وكل جزء منهم يعمل جاهداً من أجل اكمال هذا البناء واقحام المشاهد بداخله، ومن ثم تنطلق الأحداث.
 سبايك جونز في فيلمه هذا يختصر كل هذا البناء في ثلاث عناصر بكل بساطة، لون ومهنة وسؤال. فالألوان الزاهية التي استخدمها على كل جماد تشير ناحية زمن اصطناع البهجة، وهو الأمر الذي تؤكده مهنة "ثيودور" خواكين فينكس، والذي يعمل كاتب في شركة تنوب عن المستهلكين لكتابة رسائلهم الحميمية الخاصة، وهو نفسه السؤال الصغير الذي يزرع بذرة الفكرة بداخل المشاهد: هل العلاقات الانسانية فعلاً قد تصل إلى هذه المرحلة من الهشاشة؟، وهو نفس السؤال الذي سيقابله عدة اسئلة أخرى سريعاً: هل نحن فعلاً بعيدين عن هذه المرحلة؟، ومن ثم مرحلة الشك: هل هذا العمل سيء؟، وتأكيداً على ذلك: وهل إسعاد الطرف الأخر واجب أم خيار؟.
 أحداث الفيلم الأولى والتي تعتبر "جنين" الحكاية تبدو مكثفة الاسئلة، انتزاع حقيقي لقشور التفكير السطحي ناحية شيء أكثر عمق، غوص باتجاه الفكرة الأم والتي تظهر جلياً حينما ينطلق صوت "سمانثا" سكارليت جوهانسون.

-       اليوم الثالث: ولادة
 في ظل كل تلك المشاعر الهشة التي تحيط بالشخصية الرئيسية "ثيودور"، والتي تكشفها نظرات صديقته المقربة "إيمي" إيمي آدمز، والتي يبدو عليها القلق الواضح من الحالة النفسية البائسة التي تبدو واضحه جلياً على ملامح خواكين فينكس، نظرة ذابله، خطوات متملله، كلمات سطيحة، وذهن شارد. فهو الصديق الذي يمر بمرحلة الطلاق المؤجل من زوجته التي يحب ويعيش حالياً حالة مركبة، تبدو فارغة خارجياً، ولكنه يعاني من أزمة ثقة داخلياً.
 هذه الحالة النفسية التي تنقلب رأساً على عقب حينما يقرر فينكس بأنه بحاجة إلى اقتناء نظام التشغيل الذكي الجديد، وكأنها رسالة سبايك جونز العبقرية ضمنياً "أخلق الشريك الذي تحب، لا فرق"، وهو الأمر الذي يفعله فعلاً خواكين في أول تشغيل للنظام واختياره للإعدادات، ليظهر صوت "سامنثا" الخجول الجميل.
 تتطور العلاقة بين "ثيودور" والنظام "سامنثا" سريعاً، وهو نظام ذكي يمتلك المقدرة على التطور الذاتي، وتعود الحياة لتشرق أمامه من جديد، علاقة تبادلية غير مبنية على المنفعة، هي تسهل له اجراءات عمله وتستمع لجميع مشاكله وتغوص معه بحنيه ناحية كل تلك الأماكن المظلمة في شخصيته لتنتشله منها، وهو يمنحها الوجود والحياة، يبسط لها التعقيد الانساني في فهم المشاعر المركبة، ويطور من قدراتها أكثر.

-       اليوم الرابع: شك
 للوهلة الأولى تبدو علاقة ثيودور بنظام التشغيل الإلكتروني فعلاً مثيرة للشفقة، فلا يتصور أحداً ما هو اسوأ من هذا الشكل من العلاقات، ولكن الاختبار الحقيقي للكثير من المفاهيم التي ترتبط بالعلاقات الانسانية قادم وبشكل عنيف، فمن جهة شخصية سامنثا تتطور بشكل مقنع جداً، حتى تتورط أنت شخصياً –كمشاهد- بأنك لا يمكن أبداً أن تعتبرها مجرد نظام تشغيل الكتروني، وليس شيئاً حقيقياً يقتحم حياة ثيودور.
 تتوقف هنا لتعدد الأشكال الحياتية المقاربة لمثل هذا الوضع، هل العلاقات التي نشاهدها اليوم في حياتنا الطبيعية بين شخص وأخر عبر الأنترنت حقيقية بشكل كامل؟، هل يعتبر هذا مثال على علاقة تربط شخصين أجبرتهما المسافة على الابتعاد جسدياً ولكن يجمعهما الهاتف مثلاً؟، ما حقيقة السؤال الأكبر هنا: هل العلاقة الانسانية تحتاج لما هو أكثر من مشاعر؟.
 الصعوبة في ملاحقة كل تفاصيل الفيلم دفعة واحدة ومن خلال مشاهدة واحدة تكمن في التنقل المربك بين حالات السعادة والحزن، والتي امتلك المخرج سبايك جونز أطرافها بكل احترافية. وبين الاسئلة التي تتفجر داخلك أكثر وأكثر، حتى تصل إلى مرحلة تشعر بأنك فعلاً بحاجة لتعريف جديد لمصطلح "السعادة" داخل العلاقات الانسانية، وهل وصف (الخلل النفسي) الذي يوجه كتهمه اليوم لكل من يجد سعادته داخل عالم وهمي مثل الانترنت صحيح فعلاً؟، وهل التصرف الصحيح اتجاه ذلك هو تهمش وسيلة قد تقود الاشخاص للتصالح مع انفسهم وماضيهم وتمنحهم مستقبل أكثر أريحيه، وهو ما حدث مع ثيودور فعلاً حينما تأكد من محبته لسمانثا، فتوج ذلك تصالحه مع الماضي، ومثله مشهد اتمام أوراق طلاقه التي بقت معلقه، كما هي حياته لفترة طويلة، وكذلك تصالح مع نفسه، ولا يوجد ما هو أكثر وضوحاً من مشهد اعترافه لصديقته إيمي بكل ثقة بأنه على علاقة مع جهازه الالكتروني، وكذلك منحته مستقبل أكثر أريحية، ومشاهد كثيرة أجاد فيها فينكس بابتساماته وضحكاته التي نثرها عبر جزء كبير من الفيلم تؤكد بقوة على هذا الشيء.
  
-       اليوم الخامس: وفاة
 الاتجاه الذي أختاره سبايك جونز لنهاية الفيلم يعتبر منطقياً جداً والأكثر أماناً، فهو يؤكد من جهة على صعوبة وتعقيد العلاقات مهما كان شكلها، وهذا الطبيعي في الحياة البشرية، ومن جهة أخرى ينفي كمال الكيان المشوهة الذي خلقه طول الفيلم والمتمثل بنظام التشغيل الالكتروني "سامنثا"، ويؤكد على أن معاني مثل: الاكتفاء والالتزام أمور يصعب جداً على أي كائن أخر غير بشري أن يفهم أبعادها ويستوعبها. ولم يترك سبايك لسوء الفهم طريق قد يقود ناحية نتائج أخرى وهمية لا يريد أبداً أن يتعلق أي شخص داخل فقاعتها مستقبلاً.
 حتى الختام نفسه، يفتح آفاق جديدة لحقيقة فهمنا وانطباعنا الأولي، ويجبرنا في الغالب لمشاهدة ثانية من أجل اكتشاف زوايا رؤية جديدة، وهو فعلاً ما يمتلكه الفيلم وقادر على تقديمه. إذ انه من نوعية تلك الأفلام الخيالية التي لا تسمح لنفسها بالسقوط في فخ الفانتازيا، ولكنها تعيدك للنظر بالواقع بشكل مكثف أكثر، وتمنحك مقياس للمقارنة، تعبر بك ناحية جهة جديدة للرؤية بشكل أخر، قد لا تقدم أجوبة، ولكنها بكل تأكيد تزرع اسئلة.
 تقول أحدى أبطال الفيلم وهي إيمي آدمز: "كل من سيشاهد الفيلم، سيجد به جزء من مشاكله الخاصة".

-       اليوم السادس: ذكرى
 لا تستطيع إلا الإشادة بطاقم عمل الفيلم، خواكين فينكس يؤكد من جديد على ما يمتلكه من إمكانيات كبيرة ساعدت على إخراج شخصية "ثيودور" بكل ذلك الإقناع، منح الدور بعداً حسياً غير اعتيادي، ويقول في هذه الجزئية مخرج العمل سبايك جونز: "لم أجد أفضل من بقاء الكاميرا على وجه خواكين فينكس لمنح تلك الحوارات الحياة". وقد تكون آراء خواكين فينكس وانتقاداته السابقة لنقاد الأكاديمية هي السبب وراء عدم ترشيحه لجائزة الأوسكار عن هذا الدور في الحفل القادم، ولكن من يعلم.
 سكارليت جوهانسون تثبت هنا بأنها ليست بحاجة للخروج بوجهها الجميل من أجل أن تمنح أي شخصية الإقناع، لا أبالغ ان وصفت دورها –الصوتي- بأنه أخذ بعنصر الصوت في السينما خطوة للأمام. وقد حصلت سكارليت من خلال دورها هذا على العديد من الترشيحات في الجوائز الإقليمية وفازت ببعضها، ولم يكن مستغرباً لو منحتها الأكاديمية مثل هذا الترشيح، ولكنه لم يحدث، وهذا لا يقلل من قيمة ما قدمته أبداً.
 حتى إيمي آدمز، وبدرجة أقل روني مارا، قدمتا حرفياً ما تحتاجه أدوارهما، رفقة كل تلك المؤثرات الضوئية والصوتية والموسيقى التي قدمت للسينما أحد أجمل أفلام الخيال الرومانسي في الفترة الأخيرة.
 ولكن كل تلك الجماليات لا يجب أن تمنعنا عن ذكر السلبية الأبرز التي عابت على الفيلم، فـ 126 دقيقة كانت فعلاً أكثر مما هو مطلوب لإنجاز كل ما يحتاجه النص، هناك شعور بالترهل أصاب بعض لحظات الفيلم، ولا أعلم كيف سيكون شكل الفيلم لو تم اقتطاع اي جزء منه تحديداً، ولكن هناك شعور نسبي لا يمكنك أن تغفل عنه بأنه فعلاً هذه اللحظات تحتاج "حدث" يدفعها للأمام.


نشرت في صحيفة أراء الالكترونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق