الصفحة الرئيسية

الأربعاء، 11 سبتمبر 2013

دعوة نيكوس كازانتزاكيس للرقص والجنون



غالباً ما يكون خلف أي عمل فني شيئاً أراد صاحب هذا العمل أن يقوله، رسالة حاول بطريقته أن يوصلها، لا يهم أبداً طريقة إيصال ذلك الكلام أو ذاك الشعور، الأهم دائماً هي أن تصل، الهاجس الأكبر لدينا جميعاً هو كيف لنا أن نعبر كي يصل ذلك؟.

 وبعد الاتفاق على بديهية هذه الفكرة الأساسية "خلف كل عمل رسالة"، فإن السؤال المنطقي الأول بعد تعرفك على أي عمل فني هو: ماذا يريد صاحب الفكرة أن يقول؟، ما هي الرسالة؟، كيف يريدني أن أشعر؟ وإلى أين يريد أن أذهب؟.

 هذه بالضبط هي اسئلتي لليوناني نيكوس كازانتزاكيس، بعد قراءة روايته الجميلة "زوربا اليوناني"، ماذا تريد أن تقول يا نيكوس؟ ما هي رسالتك التي تركتها بين باسيل وأليكسيس؟ إلى أين تريدني أن أذهب؟. ولماذا مسقط رأسك "كريت" بالذات؟ هل تحن للماضي يا نيكوس؟. "هناك اسوأ ممن هو أصم، وهو الذي لا يريد أن يسمع".

 هل باسيل وزوربا كلاهما يمثلان نيكوس نفسه، ما هو عليه والنقيض تماماً. باسيل المتعلم الكاتب المتردد، الذي أدمن القراءة حتى فرط بالحياة الفعلية، العقل الذي لم يبالي للجسد، الفكرة التي أفسدت كل دهشة ممكنة بخيالاتها وتأملاتها، وزوربا هو الطرف الأخر بكل تأكيد، إذاً ممكن هي سيرة ذاتية، برفقة الأستاذين الأكبر يا نيكوس: نيتشه وبوذا. لا يهمني ذلك ولا أحبذ مسائل الافتراض، ولن أنصب نفسي نيكوس نفسه لأشرح ما كان يعمل، ولكنني بكل تأكيد سأبحث عن ماذا كان يريد أن يقول لي كقارئ.


 يقول نيكوس في روايته: "جميع الذين يعيشون حقاً أحجيات الحياة لا يجدون وقتاً للكتابة، بينما الذين يتسنى لهم الوقت فإنهم لا يعيشونها"، أليكسيس زوربا يعيش أحجيات الحياة ولا يجد وقتاً للكتابة، وباسيل يتسنى له الوقت ولا يعيشها، الندم الأكبر والنصيحة الأهم، المتعلم المتخيل بمواجهة البدائي العفوي، وكيف تفسد علينا المعرفة بساطة وجمال دهشة اللقاء بكل شيء لأول مرة، يحذر من الانغماس رفقة العقل وإهمال الجسد، ويحذر أكثر من الانكباب على النهل وخسارة لذة الاكتشاف. "كنت معروفاً بمحبة الحياة، فكيف سمحت لنفسي بالتورط طويلاً بهراء الكتب وبالورق الملوث بالحبر؟".

 "ان لكل انسان حماقاته، لكن الحماقة الكبرى هي أن لا يكون للإنسان حماقات"، دعوة للتمرد ولو قليلاً، التخفف من جدية هذا العالم ولسان حاله يقول: القليل من الجنون لا يضر وتقبل البشر لطبيعة بشريتهم الخطائه أمر جيد، الانخراط في القطيع والسعي الحثيث لتمثيل دور الشكل الأفضل الذي حددته معايير المجتمع أمر مرهق. وكما طلب نيكوس فعلاً أن ينقش على شاهد قبره قبل وفاته "لا آمل في شيء، لا أخشى شيء، أنا حر".

 "الفكرة هي الأساس، ألديك إيمان؟ إذن فإن قطعة من باب قديم تصبح رفاتاً مقدساً، ليس لديك إيمان؟ إذن الصليب المقدس كاملاً يصبح عامود باب قديم"، زوربا اليوناني كان شكلاً ضمنياً للطبيعة الانسانية الصحيحة الأولى، نهم ولكنه قنوع، عجوز ولكن روحه شابه، خطاء ولكنه أمين، غير متعلم ولكنه لا يخشى قول الحق، ينصاع للقلب في أمور المشاعر ويحتكم للعقل في وقت العمل، إيمانياته ذاتيه وقيمه فطريه برئيه، وينتقد من خلاله شخصية هذا العجوز أليكسيس رجال الدين وفق معايير معلمه نيتشه: لا ذم في الدين، ولكن الانتقاد لاستخدام الدين كغطاء للتهرب من المسؤولية والعمل الفعال.

 المتكرران كثيراً في رواية زوربا اليوناني هما: الجنون والرقص، فبطل الرواية أليكسيس يمزج هذان العنصران دائماً، لا خطوة بلا جنون ولا حدث بلا رقص، رجل مكتفي بذاته "أؤمن بزوربا فقط، لأنه الوحيد الذي يقع تحت سلطتي، والوحيد الذي أعرفه"، يؤمن بنفسه/أخلاقياته، ولا يصدق إلا رقصاته/تفكيره معها، وكما هو الرقص دائماً تعبير الفكر، فإن الجنون تعبير للثورة، "ومن لم يكن مجنوناً فلن يستطيع أن يقطع الحبل لكي يصبح حراً".

 عمل للتاريخ يا نيكوس، أوعدك بأنني سأرقص كثيراً وأجن أكثر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق