الصفحة الرئيسية

السبت، 7 سبتمبر 2013

الأسطورة: الأطلال



 أنه الخميس الأول من أكتوبر 1966، الصالة بلا كرسي فارغ، حتى كرسي القصبجي لم يكن هناك، سومه على كرسيها أيضاً، تبدأ الموسيقى بالعزف، الأجواء في كل مكان خانقة، حرارة الترقب توازي حرارة الطقس، لا أحد في هذا المكان يجلس بارتياح.

 ذكرى الطبيب إبراهيم ناجي تلوح بالأفق، كلماته أخيراً ستغنى بصوت الست، سعى كثيراً في حياته من أجل ذلك، ولكن اليوم فقط وبعد ثلاثة عشر شهراً من وفاته سيتحقق ذلك الحلم، بل وأكثر، لأن الأطلال الأغنية قد ضمت الأطلال القصيدة، وكذلك مقطعاً من قصيدة أخرى لإبراهيم "الوداع".
 الفرقة تستمر بالعزف، الجمهور ينتظر لحظة وقوف سومه بترقب، لا أحد يعرف ماذا ستقول، كأن الجميع داخل على المجهول، هذه أحدى مميزات حفلاتها، الأغنية الجديدة تقدم أول مرة على الهواء مباشرة لتختبر نفسها، تختبر كذلك السنين الأربعة التي كلفتها هذه الأغنية على العلاقة بين أم كلثوم وملحنها رياض السنباطي، هي اعترضت على الخاتمة "القفلة"، وهو أعترض على تسلطها وتدخلها في كل شيء. أربعة سنوات من الخصام تختبر اليوم، لتثبت للجميع من منهم كان على حق، هي تتذكر من على كرسيها: "لا يا رياض، القفلة عالية أوي، لا لا لا"، ورياض في منزله يتذكر: "أنت المطربة يا أم كلثوم وأنا الملحن، أنا عارف بأعمل إيه".
 التصفيق يرتفع عالياً مع وقوف الست، تقترب من المايكروفون وتبتعد الموسيقى، "يا فؤادي". الآهات تتصاعد تلقائياً ترحيباً بصوتها، تبتسم، تلتف للجهة اليسرى مصدر الآهات وتشد على منديلها، تعيد: "يا فُؤادي لا تَسلْ أينَ الهوى، كان صرحاً من خيالٍ فهوى"، الهدوء يختطف المكان، الجميع ما زال يستطعم أول الكلمات، تعيد، الهدوء يزيد من ارتباكها، تبحث بعينيها في كل الزوايا المتاحة، تبحث عن أي ردة فعل تكسر هذا الجمود، تبادر مسرعة: "إسقني / وأشرب على أطلاله، وأروِ عني / طالما الدمع روى"، الصمت مطبق مخيف، تكرر، لا شيء !، تُكمل: "كيف ذاك الحب أمسى خبراً؟، وحديثاً من أحاديث الجوى"، تصفيق متفاوت، ليس هذا ما وعد به رياض!، تتذكر كيف رفض تلحين (حب إيه)، وكرر بأنها ليست من قيمتها، وكيف هاجم بليغ حمدي على تلحينها هذه الأغنية، وكم كرر بأن هذا لحن لا يليق بالست!، كيف لم يكن راضياً عن "ألف ليلة وليلة" و"سيرة الحب"، وكان يغضب من "الحب كله" و"حكم علينا الهوى".
تكمل: "لست أنساك / وقد أغريتني، بفمٍ / عذب المناداة / رقيق ~ ويدٍ تمتد نحوي كـ يدٍ، من خلال الموج مدت لـ غريق"، أول الآهات ترتفع من بعيد، تعود لها الروح، تبتسم، تكمل: "وبريقٍ يظمأ الساري له، أين في عينيك ذاك البريق"، ترجع خطوة، تصفيق على قدر ابتسامتها، فجأة ترتفع بعض الأصوات من الجهة اليسرى تطالبها بإعادة المقطع الأخير، يُكيف اللحن، تعيد، لا فائدة، الجمهور يتوقع أكثر، هي تريد أيضاً تخطي هذا المدخل.
 تكمل: "يا حبيباً زرت يوماً أيكه، طائر الشوق / أغني ألمي~  لك إبطاء المذل / المنعم، وتجني القادر المحتكم ~  وحنيني لك يكوي أضلعي، والثواني جمرات في دمي"، الجمهور يستثقل اللغة، هي ترسم ملامح اللوحة، لحن رياض يستفز الجميع، تعيد للتأكيد، لا شيء، تنظر للأسفل وتبتسم بمكر، تكمل: "أعطني حريتي أطلق يديا" الجمهور ينفعل، تنطلق الآهات بانفعال، تكمل: "إنني أعطيت ما استبقيت شيئا ~ آه من قيدك / أدمى معصمي، لم أبقيه / وما أبقى عليا"، تضغط على الـ أه بحرقة، وتكمل بتساؤل: "ما احتفاظي بعهودٍ لم تصنها؟، وإلامَ الأسر؟ والدنيا لديا"، تصفيق يعصف بالمكان، يرتفع صدرها بثقة، تنخفض قليلاً رداً للتحية بكبرياء، تكرر "أعطني حريتي أطلق يديا"، وتضغط على الـ آه أكثر، مفعولها كالسحر، الجميع يلتفت لمن بجانبه مؤكداً، يطلب منها الإعادة وتفعل، تحلق بهم كعادتها.
أين من عيني حبيب / ساحرٌ، فيه عزٌ وجلالٌ وحياء
 واثق الخطوة يمشي ملكاً، ظالم الحسن / شهي الكبرياء
 عبق السحر كأنفاس الربى، ساهم الطرف كأحلام المساء
أين مني مجلسٌ أنت به، فتنةٌ تمت سناءً وسنى
وأنا حبٌ / وقلبٌ هائمٌ, وفراشٌ حائرٌ منك دنا
ومن الشوق رسولٌ بيننا، ونديمٌ قدم الكاس لنا
 تنطلق فرحة لحن رياض الآن منها لا من الموسيقى، تنشد: "هل رأى الحب سكارى مثلنا، كم بنينا من خيالٍ حولنا"، الجميع مصدوم أولاً، مغرم ثانياً، مخمور أخيراً، تترنح بالكلمات كما يفعل اللحن، تعيد، وتكمل بالمقطع الحلم: "ومشينا في طريقٍ مقمر، تثب الفرحه فيه قبلنا ~ وضحكنا ضحكة طفلين معناً، وعدونا فسبقنا ظلنا". لا منطق بعد هذا، الجميع أبعد عن الأرض شبراً، تعيد، النشوة لا تصدق، تعيد، الرؤوس تترنح من فوق أكتافها، تعيد، تستلذ، تعيد، "هل رأى الحب سكارى مثلنا"، تعيد، المقطع الورطة لا يريد أن ينتهي، لا أحد يريده أن ينتهي، تعيد، تريد الإكمال، الزمن يتوقف، لا تستطيع وتعيد، "وعدونا فسبقنا ظلنا"، تتذكر المقطع المقبل، تخشى عليهم بما هو قادم، تعيد. تهرب "وأفقنا بعد .."، تنتبه بأنها مثل كل من كان هناك، غير واعي بسكرته، تتمسك بمنديلها وتصحح: "وانتبهنا بعد ما زال الرحيق، وأفقنا / ليت أنا لا نفيق".
يقظةٌ طاحت بأحلام الكرى، وتولى الليل / والليل صديق
وإذا النور نذيرٌ طالعٌ، وإذا الفجر مُطلٌ كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها، وإذا الأحباب كلٌ في طريق
أيها الساهر تغفو، تذكر العهد وتصحو
وإذا ما التام جرحٌ، جد بالتذكار جرحٌ
فتعلم كيف تنسى، وتعلم كيف تمحو
 لحن الخاتمة يدخل، الجمهور بلا وعي يصفق بتباعد، تزر على أسنانها خشية، لم تكن واثقة، أرادت عودة رياض، ووافقته، كل شيء حتى هنا أقرب للكمال، كيف سيبدو الختام، تنشد وعينها للأعلى: "يا حبيبي: كل شيءٍ بقضاء، ما بأيدينا خلقنا تعساء ~ ربما تجمعنا أقدارنا، ذات يومٍ / بعدما عز اللقاء ~ فإذا أنكر خِلٌ خله ~ وتلاقينا لقاء الغرباء ~ ومضى كُلٌ إلى غايتهِ، لا تقل شئنا / فإن الحظ شاء"، تكررها "فإن الحظ شاء"، تمد بصوتها، يحرر المعنى حيرة كل الحضور، وتحررها أصوات التصفيق، تتجلى، "فإن الحظ شاء"،  كما هو الكمال. لا أحد الآن على مقعده، الجميع يقف، يصفق بلا توقف، الأصوات تتداخل من كل الجهات، ولادة أعظم أغنية في القرن العشرين تتم.
 تخرج سومه من المسرح، لأول مرة في حياتها لا تتوجه إلى منزلها بعد الحفلة كما تعودت، بيت رياض السنباطي، تدق الجرس في تلك الساعة المتأخرة، تفتح زوجة رياض بصدمه، تندفع سومه للداخل، تجد رياض، ترتمي بأحضانه وكلماتها تسابق دموعها، تتأسف على ضياع أربعة سنوات حتى ولادة هذه الأغنية، تقول: "أنت كنت فاهمني أكثر من نفسي".

 بعد رحيل أم كلثوم لم يلحن السنباطي أبداً، عجوزاً كان يخجل من البكاء، ترك العود في السنوات الستة التي بقيت له بعد رحيلها، مات بالربو عام 1981، وقبل وفاته وصف كل ما مر به لأكثر من ستة عقود بـ: "قصة حياتي هي أم كلثوم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق